فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} اللاتي جمع التي وقد تقدّم.
قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقَّنون.
وقيل هو على بابه.
والنُّشوز العصيان؛ مأخوذ من النَّشْز، وهو ما ارتفع من الأرض.
يقال: نَشَز الرجل يُنشز وينشز إذا كان قاعدًا فنهض قائمًا؛ ومنه قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11] أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى.
فالمعنى: أي تخافون عِصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج.
وقال أبو منصور الُّلغَوِي: النشوز كراهيةُ كلِّ واحد من الزوجين صاحبَه؛ يقال: نشزت تنشِز فهي ناشِز بغير هاء.
ونَشَصت تنشص، وهي السيئة للعشرة.
وقال ابن فارس: ونشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها.
قال ابن دُرَيد: نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنًى واحد. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل.
قال الشافعي رضي الله عنه: {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} النشوز قد يكون قولا، وقد يكون فعلا، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت، والفعل مثل أن كانت تقوم إليه إذا دخل عليها، أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إنها تغيرت عن كل ذلك، فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها، فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز.
وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف، وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع، ومنه يقال للأرض المرتفعة: ونشز ونشر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} أي بكتاب الله؛ أي ذكّروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العِشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها، ويقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقال: «لا تمنعه نفسَها وإن كانت على ظهر قَتَبٍ» وقال: «أيُّما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبِح» في رواية «حتى تراجع وتضع يدها في يده» وما كان مثل هذا. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رضي الله عنه: أما الوعظ فإنه يقول لها: اتقي الله فإن لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا، ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية، فإن أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا، وأيضا فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران، فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها، وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة، لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك، ثم عند هذه الهجرة إن بقيت على النشوز ضربها.
قال الشافعي رضي الله عنه: والضرب مباح وتركه أفضل. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم، فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم، فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن، فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي صلى الله عليه وسلم جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم» ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا.
قال الشافعي رضي الله عنه: فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب، فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة، بأن يكون مفرقا على بدنها، ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين.
ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا، وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه.
وأقول: الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} وقرأ ابن مسعود والنَّخَعِيّ وغيرهما في المضجع على الإفراد؛ كأنه اسم جنس يؤدّي عن الجمع.
والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويُولِيها ظهره ولا يجامعها؛ عن ابن عباس وغيره.
وقال مجاهد: جنِّبوا مضاجِعهن؛ فيتقدّر على هذا الكلام حذف، ويَعضُده اهجروهن من الهجران، وهو البعد؛ يقال: هجره أي تباعد ونأى عنه.
ولا يمكن بُعْدُها إلا بترك مضاجعتها.
وقال معناه إبراهيم النَّخعِي والشّعبِيّ وقَتادة والحسن البصريّ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك، واختاره ابن العربي وقال: حَملُوا الأمر على الأكثر المُوفي.
ويكون هذا القول كما تقول: اهجره في الله.
وهذا أصل مالك.
قلت: هذا قول حَسَن؛ فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشقّ عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مُبغِضة فيظهر النشوز منها؛ فيتبيّن أن النشوز من قِبَلها.
وقيل: اهجروهن من الهُجر وهو القبيح من الكلام، أي غلِّظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره؛ قال معناه سفيان، وروي عن ابن عباس.
وقيل: أي شدّوهن وثَاقًا في بيوتهن؛ من قولهم: هجرَ البعيرَ أي ربطه بالهِجار، وهو حبل يُشدّ به البعير، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال.
وفي كلامه في هذا الموضع نظر.
وقد ردّ عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال: يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة! والذي حمله على هذا التأويل حديثٌ غريب رواه ابن وهبٍ عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق امرأة الزبير بن العوّام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك.
قال: وعتب عليها وعلى ضَرّتها، فعقد شعر واحدة بالأُخرى ثم ضربهما ضربًا شديدًا، وكانت الضرّة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتّقي فكان الضرب بها أكثر؛ فشكَتْ إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها: أيّ بُنيّة اصبري فإن الزّبير رجل صالح، ولعلّه أن يكون زوجَك في الجنة؛ ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوّجها في الجنة.
فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير.
وهذا الهجر غايته عند العلماء شهرٌ؛ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أسَرّ إلى حفصة فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه.
ولا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلًا عذرًا للمُولِي. اهـ.

.قال الفخر:

اختلف أصحابنا قال بعضهم: حكم هذه الآية مشروع على الترتيب، فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال بعض أصحابنا: تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها، وهل له أن يهجرها؟ فيه احتمال، وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها، أو يضربها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واضربوهن} أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولًا ثم بالهجران، فإن لم يَنْجَعا فالضرب؛ فإنه هو الذي يصلِحها له ويحملها على تَوْفِية حقه.
والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المُبَرِّح، وهو الذي لا يكسر عظمًا ولا يشين جارحة كاللَّكْزة ونحوها؛ فإن المقصود منه الصلاح لا غير.
فلا جَرَم إذا أدّى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدّب غلامَه لتعليم القرآن والأدب.
وفي صحيح مسلم: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألاّ يُوطِئْنَ فُرُشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضَرْبًا غيرُ مُبَرِّح» الحديث.
أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج، أي لا يُدخِلن منازلكم أحدًا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب.
وعلى هذا يُحمل ما رواه التّرْمذِيّ وصحّحه عن عمرو بن الأحْوَص أنه شهد حجة الودَاع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمِد الله وأثنى عليه وذكّر ووعظ فقال: «ألاَ واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عَوَانٍ عندكم ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجِع واضربوهن ضربًا غيرَ مُبَرِّح فإن أطَعْنَكم فلا تَبْغُوا عليهن سبيلًا ألا إنّ لكم على نسائكم حقًا ولنسائكم عليكم حقًّا فأما حقكم على نسائكم فلا يُوطِئْنَ فُرُشَكم مَن تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم من تكرهون ألاَ وحقُّهنّ عليكم أن تحسِنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» قال: هذا حديث حسن صحيح.
فقوله: {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} يريد لا يُدخِلن مَن يكرهه أزواجُهن ولا يُغضِبنهم.
وليس المراد بذلك الزنى؛ فإن ذلك محرّم ويلزم عليه الحدّ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «اضربوا النساء إذا عَصَينكم في معروفٍ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّح» قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غيرُ المُبَرِّح؟ قال بالسواك ونحوه.
وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعُذِل في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُسأل الرجل فيمَ ضرب أهله». اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {والتي تخافون نشوزهن} هذه بعض الأحوال المضادّة للصلاح وهو النشوز، أي الكراهية للزوج، فقد يكون ذلك لسوء خلق المرأة، وقد يكون لأنّ لها رغبة في التزوّج بآخر، وقد يكون لقسوة في خُلق الزوج، وذلك كثير.
والنشوز في اللغة الترفّع والنهوض، وما يرجع إلى معنى الاضطراب والتباعد، ومنه نَشَزُ الأرض، وهو المرتفع منها.
قال جمهور الفقهاء: النشوز عصيان المرأة زوجها والترفّع عليه وإظهار كراهيته، أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها، أي بعد أن عاشرته، كقوله: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا}.